بسم الله الرحمن الرحيـــم
أدعية من القرآن
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ..
المسلمون في هذه الأيام يعيشون موسماً عظيماً فيه يؤدى ركن من أركان الإسلام ، ألا وهو ركن الحج ، وإن كانت الأيام التي تؤدى فيها الفريضة قد انطوت وآذنت بالرحيل ، بل إن كثير من الحجاج بتوفيق الله ومنته ، قد أكملوا نسكهم وأدوا تلك الشعيرة العظيمة ، فمن تعجل منهم ، قد أكمل نسكه بالأمس ، بل إن بعضهم قد وصلوا إلى أهلهم بالسلامة ولله الحمد ، فنسأل الله القبول للجميع ، وأن يجعل سعيهم مشكوراً وعملهم مقبولاً وحجهم مبروراً .
ومع قضاء هذه المناسك العظيمة كان للقرآن الكريم وقفات ينبغي لكل مسلم أن يتأملها ، فهي منهج حياة ، تقود المسلم إلى خيري الدنيا والآخرة فقال الله سبحانه في سورة البقرة في معرض الآيات التي تناولت شأن الحج ومناسكه {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ، وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }البقرة200-202.
فيأمر تعالى بالإكثار من ذكره بعد قضاء المناسك وفراغها، ( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ) كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ : يعني كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك ، والمعنى كما قرر أهل العلم والتفسير، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره : والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل .
وذكر الله تعالى أيها المسلمون كما تعلمون نعمة كبرى، ومنحة عظمى، به تستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح. ما أشد حاجة العباد إليه،وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغنى عنه المسلم بحال من الأحوال .
قال الله جل الله ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) .
ثم من أعظم الذكر دعاء الله سبحانه والتوسل إليه ، ولهذا أرشد الله سبحانه لدعائه بعد الأمر بذكره لإنه أقرب للإجابة ، ووصف رب العزة والجلال حال صنفين من الناس في الدعاء فقال سبحانه ( فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ، وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
عن بن عباس رضي الله عنهما قال كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف - يعني في الحج - فيقولون اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً فأنزل الله فيهم ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ) وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فأنزل الله ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ) ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى فقال ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
لم يذم الله أصحاب الحال الأول لإنهم سألوا الله أمور الدنيا إنما ذم سبحانه وتعالى : من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه .
فالمسلم الحق هو من كان عمله للآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر فان الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها فانها كلها مندرجة فى الحسنة فى الدنيا ، وأما الحسنة فى الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر فى العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة وأما النجاة من النار فهو يقتضى تيسير أسبابه فى الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام .
قال القاسم أبو عبد الرحمن رحمه الله ..من أعطى قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وجسدا صابرا فقد أوتى فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ووقى عذاب النار .
ولهذا وردت السنة بالترغيب فى هذا الدعاء فعن أنس بن مالك قال كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول اللهم ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) رواه البخاري .
قال الامام القاضي عياض انما كان يكثر الدعاء بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كله من أمر الدنيا والآخرة .
وكان أنس رضي الله عنه : إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه
وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه أولا تستطيعه فهلا قلت ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) قال فدعا الله فشفاه ) .
وجاء في الحديث الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الطواف ما بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
إنه دعاء عظيم ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) إن هذا المنهج المستقيم في الدعاء هو المنهج المستقيم في الحياة ، ديننا الإسلامي ليس دين رهابنية ولاتنطع ولاغلو ، إنه دين متوازن يجعل من المسلم نافعاً حيثما كان ، يعمل في ديناه لآخرته ، ويعمر دنياه بالعلم النافع والعمل الصالح ، ماأجمل أن يكون للمسلم في هذه الحياة طموحات وآمال ينفع بها نفسه ودينه ووطنه وأمته ، إن المطلع على عبارات السلف رحمهم الله في معنى حسنة الدنيا يعلم هذا المعنى واضحاً جلياً ، إنها النعمة التي يتنعم به المسلم قبل النعمة الكبرى في جنة الخلد حينما يكون المسلم عاملاً باذلاً من وقته ونفسه في تحقيق تلك الحسنتين العظيمتين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة .
وفي هذا الدعاء العظيم أيضاً .. تعليم أدب من آداب الدعاء وهو دعاءه سبحانه وبحمده بربوبيته ( ربنا ) ورب الأولين والآخرين ، قال الله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف54-55 .