تعريف بلقمان :
لقمان
رجل آتاه الله الحكمة ، كما قال جل شأنه : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) [
لقمان : 12 ] منها العلم والديانة والإصابة في القول ، وحكمة كثيرة مأثورة ،
كان يفتي قبل بعثه داود عليه السلام ، وأدرك بعثته وأخذ عنه العلم وترك
الفتيا ، وقال في ذلك : ألا أكتفي إذا كفيت ؟ . وقيل له : أي الناس شر ؟
قال : الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا . وقال مجاهد : كان لقمان الحكيم
عبداً حبشياً غليظ الشفتين مشتق القدمين ، أتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم
فقال له : ألست الذي كنت ترعى الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم، قال :
فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث، والصمت عما لايعنيني .
وعن
خالد الربعي قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً فقال له مولاه : أذبح لنا
هذه الشاة فذبحها ، قال : أخرج أطيب مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ،
ثم مكث ما شاء الله ثم قال : أذبح لنا هذه الشاة ، فذبحها ، قال : أخرج
أخبث مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ، فقال مولاه : أمرتك أن تخرج أطيب
مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضعتين فيها فأخرجتهما .
فقال لقمان : إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خبثا .
وقال
القرطبي : قيل إنه ابن أخت أيوب وابن خالته ، رأي رجلاً ينظر إليه فقال :
إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني
أسود فقلبي أبيض .
والآن مع وصايا لقمان
الوصية الأولى : ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13]
قال
ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه ،
وأحبهم إليه ، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف . ولهذا أوصاه أولاً بأن
يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ، ثم قال له محذراً : ( إن الشرك لظلم
عظيم أي هذا أعظم الظلم ، قال البخاري : عن عبد الله رضي الله عنه قال :
لما نزلت ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) قلنا : يا رسول الله ،
أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : " ليس كما تقولون " ، (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )
بشرك ، أولم تسمعوا قول لقمان لابنه : ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك
لظلم عظيم ) .
فالشرك
هنا عبر عنه بالظلم ، ويلبسون إيمانهم بظلم ؛ أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك .
ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده ؛ البر بالوالدين ، كما قال تعالى " (
وقضى ربك ألاتعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسناً ) [ الإسراء " 23 ] .
وكثير ما قرن الله تعالى بين ذلك في القرآن الكريم .
الوصية الثاني
: ( يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو
في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير ) [ قمان : 16] .
قال
ابن كثير : ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء أو غائبة
ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض فإن الله يأتي بها ، لأنه لا تخفى عليه
خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولهذا قال ( إن
الله لطيف خبير ) ، أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت ، (
خبير ) بدبيب النمل في الليل البهيم .
وقال
القرطبي : روي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة التي تقع في سفل البحر
أيعلمها الله ؟ فراجعه لقمان بهذه الآية : ( يابني إنها إن تك مثقال.. . )
الآية .
الوصية الثالثة
: لا زال لقمان يوجه ولده فيقول : ( يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه
عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) [ لقمان 17 ] .
قال
ابن كثير : أقم الصلاة ، أي بحدودها وفروضها وأوقاتها ، واءمر بالمعروف
وانه عن المنكر بحسب طاقتك وجهدك ، واصبر على ما أصابك ، لأن الآمر
بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن ينال من الناس أذى ، فأمره بالصبر.
وقوله : ( إن ذلك لمن عزم الأمور ) أي الصبر على أذى الناس من عزم الأمور.
وقيل
: أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها وألا يخرج من الجزع إلى
معصية الله عز وجل وهذا قول حسن لأنه يعم. والظاهر والله أعلم أن قوله
تعالى : ( إن ذلك ) يشير إلى إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والصبر على الأذى والبلاء وكلها من عزم الأمور.
والوصية الرابع : ( ولا تصعر خدك للناس ولاتمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ) [ لقمان : 18]
الصعر
: الميل ، وأصله داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تفلت أعناقها من
رؤوسها . فشبه به الرجل المتكبر ، قال ابن كثير : لا تتكبر فتحتقر عباد
الله وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك ، وفي الحديث : " كل صعار ملعون " .
والصعار
هو المتكبر لأنه يميل بخده ويعرض عن الناس بوجهه . ومعنى الآية عند
القرطبي : ولا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً واحتقاراً لهم ، وهذا
تأويل ابن عباس وجماعة .. فالمعنى أقبل عليهم مؤنساً مستأنساً ، وإذا حدثك
أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه ، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم
يفعل .
(
ولا تمش في الارض مرحا) . قال القرطبي : وهو النشاط والمشي فرحاً في غير
شغل وفي غير حاجة ، وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء ، فالمرح مختال
في مشيته ، والفخور هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى ، قاله
مجاهد.
والوصية الخامسة : ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) [ لقمان : 19 ] .
قال
القرطبي : لما نهاه عن الخالق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن
يستعمل فقال : ( واقصد في مشيك) أي توسط فيه ، والقصد : ما بين الإسراع
والبطء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " .
فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع ، وقول عائشة في عمر رضي
الله عنه : كان إذا مشى أسرع؛ فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب
المتماوت ، والله أعلم ، وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقم بيانه
في الفرقان . ا هـ
قلت
: يقصد قوله تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ) ،(
واغضض من صوتك ) . قال القرطبي : أي أنقص منه ، أي لاتتكلف رفع الصوت وخذ
منه ما تحتاج إليه ؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي ، والمراد كله
التواضع ، وقد قال عمر رضي الله عنه لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته
: لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك . والمؤذن هو أبو محذورة ، سمرة بن معير .
(
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . قال القرطبي : أي أقبحها وأوحشها ، قال :
والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه ، ومن استفحاشهم لذكره
مجرداً ؛ فإنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون : الطويل الأذنين ؛
كما يكنى عن الأشياء المستقذرة ، وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر
الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة ، ومن العرب من لا يركب الحمار
استنكافاً وإن بلغت منه الرجل ، وكان صلى الله عليه وسلم يركبه تواضعاً
وتذللاً لله تبارك وتعالى، وفي الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في
المخاطرة والملاحاة بقبح أصوات الحمير ن لأنها عالية .
وفي
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وإذا سمعتم نهيق الحمير
فتعوذوا بالله من الشيطان ؛ فإنها رأت شيطاناً " . وقد روي أنه ما صاح حمار
ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطاناً . وقال سفيان الثوري : صياح كل شيئ تسبيح
إلا نهيق الحمير . ا هـ . قال ابن كثير : وهذا التشببيه في هذا بالحمير
يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس
لنا مثل السوء " ا هـ .